لحظات انكسار .. في المقهى

و في واقع اليحاة الذي كنت شاهدا عليه بالصدفة منذ سنوات سمعت هذا الحوار يجري بين شخصين فهمت من ملاحمهما أنهما شقيقان و كنت قد لاحظت خلال تأملي لهما أن الأكبر منهما يرتدي بدلة جيدة من الصوف و قميصا حريريا و حذاء لامعا جديدا و يضع في اصبعه خاتما ذهبيا في حين يرتدي الأصغر بدلة قديمة ..

و حذاؤه متهالك و يشي مظهره برقة الحال بالقياس إلى شقيقه ..

ثم فجأة سمعت الأخ الأكبر يتحدث إلى شقيقه بلهجة لائمة و بصوت قوي .

الأخ الأكبر : قلت لي انتظر حتى بداية العام إلى أن أقبض الحوافز السنوية و أسدد لك الدين و ها قد قارب الشهر على الانتهاء و لم تدفع شيئا فلماذا لم تسدد جزءا على الاقل من الدين و لماذا اخلفت وعدك معي ؟

الأخ الأصغر يجيب بصوت متلعثم مضطرب و خافت و هو حاني الرأس و وجهه يتضرج بالاحمرار : كنت سافعل كما وعدتك و لكن .. ولكن .. ولكن .

الأخ الأكبر مقاطعا بنفس اللهجة : و لكن زوجتك طلبت التلفزيون الملون .. فاستجبت لطلبها على الفور و لم تفكر في سداد دين أخيك الذي يصدقك كلما طلبت منه قرضا و وعدته بالسداد في موعد محدد فتضحي به .. و لا تحرص على الوفاء بوعدك له ارضاء لزوجتك !.

الأخ الأصغر متألما و بصوت متحشرج : علم الله أن الأمر ليس كذلك .. لكنها أحرجتني كما تحرجني كثيرا و تذكرني بأني عاجز عن أن أوفر لها الحياة التي تعيشها أختها و صديقاتها قي بيت أزواجهن و أن طفلنا وليد يتساءل لماذا لا يكون لدينا تلفزيون ملون كابن خالته .. فأحرجت و ظننت أن أخي يستطيع الصبر علي ثلاثة شهور أخرى حتى أقبض الحوافز ربع السنوية و أسدد له ديني شاكرا له مروءته .

الأخ الأكبر بصوت غاضب : و لماذا لم تستأذنني في ذلك لتعرف هل أنا مستعد للانتظار أم أن لدي ظروفا لا تسمح به .
الأخ الأصغر : ظننت .. ظننت .. انك تستطيع الانتظار .

الأخ الأكبر بحدة مكتومة : و لماذا ظننت هذا .. هل لأني تاجر ميسور ؟ و التجار أليست لهم أيضا أعباؤهم و التزاماتهم و ديونهم ؟

الأخ الأصغر و قد اشتد احمرار وجهه و بدا واضحا أنه يعاني من آلام في معدته و صدره : نعم .. نعم إني آسف لما سببته لك من حرج .. سوف أعيد الجهاز إلى البائع غدا و أسدد لك دينك شاكرا مروءتك و صبرك علي .

الأخ الأكبر تلين ملامح وجهه قليلا ثم يغرق في الصمت لحظات أحس أنه يتردد خلالها بين ضيقه بأخيه و بين عاطفته الأخوية نحوه ..و أخيرا يحزم أمره فيقول له بصوت أكثر هدوءا : لا تعد الجهاز للبائع و سأنتظر ثلاثة شهور أخرى ..

لكن لا تكرر ما فعلت معي مرة أخرى فالنقود ليست مهمة بحد ذاتها و انما احترامك لوعودك لي هو الأهم .. هيا اشرب شايك و دعنا ننصرف سأوصلك إلى بيتك .

و ينصرف الشقيقان من المقهى و الأخ الأصغر ما زال واجما كسير النفس محمر الوجه ..

و الأخ الأكبر يلحظه خفية و ملامحه تشي بأن الحساب قد انتهى ..

و استيقطت في قلبه من جديد عاطفة الأخوة التي توارت أثناء الحساب و يريد أن يختم اللقاء ختاما أفضل ..

و لكن هيهات أن يخفف شيء عن الأخ الأضغر احساسه بالذلة و الانكسار تجاخ شقيقه في هذه اللحظات الثقيلة و هيهات أن أنسى أنا منظرهما رغم مرور السنين و أنا أتابعهما من خلف زجاج المقهى .. و الشقيق الأكبر يركب سيارته في ثقة و اطئنان .. و الأخ الأصغر يجلس إلى جواره منكمشا متضائلا .. مثقلا بالحرج و الألم و الاحسالس بالعجز و الهوان .

يا لها من لحظات قاسية

شكرا الك كير حبيبتي

دمتي متألقة

واع اي والله

يا هلا فيكي حبيبتي شكرا كتير الك عالمرور اللطيف

» لحظات انكسار .. هو شاب
» لحظات انكسار .. قصة أمريكية
» لحظات انكسار .. القاهرة بعد منتصف الليل
» لحظات انكسار .. في رائعة نجيب محفوظ الثلاثية
» في المقهى ..